ثورة لم يكتمل مسارها
شغل ،حرية ،كرامة وطنية :هذا ما صدحت به حناجر المحتجين حتى بحت منذ ست سنوات ضد النظام السابق لزين العابدين بن علي و هذا ما تصدح به حناجر محتجين مازالوا يخرجون إلى الشوارع التونسية يوميا يطالبون بالتنمية والتشغيل . فمنذ ثورة 2011 لم تنقطع الاحتجاجات الاجتماعية في تونس سيما في المحافظات الأقل نموًا.
محافظة تطاوين جنوب البلاد التونسية شغلت كل التونسيين و تشد إليها الانظار منذ اكثر من شهر فالوضع فيها متفجر و الغضب على أشده. بنفس غاضب و بصوت مرتفع و نبرة تخفي في طياتها يأساً و إحباطاً يحدثك شباب يعيش الخيبة في ولاية تطاوين الغنية بالنفط .
منذ أيام قليلة يقود الشباب العاطلون عن العمل اعتصاماً في منطقة الكامور تحت شعار «الرخ لا» (اي لا تراجع للوراء).
على مستوى المنافذ المؤدية إلى حضائر الشركات البترولية في الصحراء انتصبت خيام آلاف المحتجين من شباب يطالبون بالتنمية والتشغيل في جهتهم المحرومة. يحدثك هؤلاء عن الثورة التي لم تقدم لهم غير مزيد من التهميش والنسيان .يقول لك شباب جل المحافظات التونسية في الجنوب التونسي و في الوسط و في الجنوب الشرقي إن “الحلم كان كبيرًا بالثورة، وإن الكل استبشر بها، لكن في كل الجهات انقطع الحلم في وسط الطريق و ضاعت آمال الشباب إلى أن أصابه الإحباط».
لم تفلح الحكومات التي تعاقبت على تونس بعد الثورة في امتصاص الغضب الشعبي ،في الوسط الغربي والجنوب الغربي والشمال الغربي للبلاد على غرار محافظات القيروان والكاف والقصرين وفي الجنوب التونسي بداية من محافظة قابس وصولا إلى تطاوين.
لم تستطع أي حكومة من بين ثماني حكومات أمسكت البلاد التونسية منذ الثورة، أن تقدم حلولاً جذرية لشباب يائس . ست سنوات على الثورة ولا تزال الوضعية تراوح مكانها ،بل ازداد الأمر سوءًا من خلال تفشي البطالة في صفوف شباب هذه المحافظة أو تلك.
محافظة تطاوين التي تزخر بالحقول البترولية وتنتشر بها الشركات النفطية العالمية تعاني نقص التنمية ومحافظة سيدي بوزيد التي انطلقت منها شرارة الثورة منطقة فلاحية تنتج أطناناً من المواد الفلاحية لكن عجلة التشغيل فيها متوقفة تماماً. و الامثلة كثيرة لا تحصى و لا تعد .
وضعيات اقتصادية متازمة هنا و هناك و تونس تتخبط منذ 2011 وسط حراك اجتماعي خانق يتجلى اثره السلبي في ضعف نسب النمو المحققة التي لم يتجاوز معدلها خلال خمس السنوات الأخيرة 1.5%.
فاما نسبة البطالة التي القت بظلالها على شباب البلاد فانتفضوا فقد ارتفعت حتى بلغت بنهاية العام الماضي 15.5%مع تسجيل بطالة مرتفعة لدى حاملي الشهادات العليا وصلت إلى معدل 30% بحسب معهد الإحصاء التونسي.
سنوات متتالية و لا صوت يعلو فوق صوت احتجاجات التونسيين في كل القرى والمدن .اصوات تتصاعد في اشكال احتجاجية متنوعة تراوحت بين الحرق والاعتصام و قطع الطرقات و الاضرابات العامة وصولا الى تعطيل النشاطات في العديد من المؤسسات او الانتحار للهروب من فقر مازال يراوح مكانه و خصاصة تشكو منها اغلب مناطق الجمهورية .
و لئن كان التصعيد كبيراً في بعض الاحتجاجات إلا أن الساسة في تونس ما فتؤوا يقدمون حلولاً ترقيعية مرتجلة .بل إن الأمر وصل إلى حد الرد العنيف على جموع المحتجين من الشباب في كافة مناطق الجمهورية. إذ تفيد إحصائيات بارتفاع وتيرة محاكمات المحتجين، بعد أن تمت إحالة 300 شاب في الفترة المتراوحة بين سبتمبر 2016 ومارس/آذار 2017 على المحاكمات بسبب تحركات احتجاجية أو اعتصام من أجل المطالبة بحقوقهم في التشغيل والتنمية.
سياسة قديمة ينتقدها نشطاء حقوقيون في تونس و يرون فيها عودة لأساليب النظام السابق الذي تقيأه التونسيون بدل التوجه نحو سياسة الحوار و الاستجابة للمطالب المتصاعدة .
مطبات كثيرة عجزت ثماني حكومات تعاقبت على تونس لأن تجد لها منوالاً تنموياً يسمح بتجاوزها .فإلى اليوم لا توجد خارطة عمل حكومي واضحة المعالم وما زاد الطين بلة الانتقال من حكومة لأخرى في ظروف زمنية قصيرة سدت معها أبواب الاصلاح ووضع ملامح برامج حكومية بعيدة المدى .
كلها ظروف جعلت من البلاد التونسية تشهد انهياراً لكل موشراتها المالية و الاقتصادية .
وضعية اقتصادية هشة تزيدها شبكات الفساد و مؤشراته تعقيدا .اذ ما فتىء رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس شوقي الطبيب يحذر من “سقوط الدولة”، بسبب استشراء الفساد والتهريب والاقتصاد الموازي.
وللاشارة فان البلاد التونسية تخسر 4 نقاط نمو سنوياً، و800 مليون دينار(347.9 مليون دولار) خسائر، نتيجة تهريب المواد الغذائية المدعمة، ما يؤدي لتنامي المديونية الخارجية.
وتخسر تونس سنوياً 2 مليار دينار (1.8 مليار دولار)، بسبب تفشي مظاهر الفساد وغياب آليات الحوكمة في الصفقات العمومية، حسب تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
حكومات متعاقبة و خطط تنموية مفقودة …
كتبت تونس دستورا جديدا يرسخ مبادىء الديمقراطية و تخطت عديد المراحل السياسية الصعبة التي كادت أن تعصف بمسار ديمقراطي ناشىء .لكن المتامل في سياق الوقائع يدرك سريعاً أن مسار الديمقراطية في تونس لا يزال يخشى هبة ريح تقوضه لهشاشة بنيانه و الغضب الشعبي المتصاعد.
لا تزال تونس متذبذبة سياسيا فرغم ما يبدو من توافق في الظاهر في ظل ما يسمى حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلا أن القطيعة مازالت سيدة الموقف بين رجال السياسة و شعبهم.
المراقبون للمشهد السياسي يجمعون على أن القطيعة الجذرية لم تحصل مع النظام السابق و أن أغلب من يقودون المرحلة الحالية هم فلول النظام القديم بالشراكة مع حركة النهضة الاسلامية. مزيج تختلط له أوراق الجميع، مزيج بين جلاد الأمس و ضحية الأمس التي أصبحت اليوم شريكاً في الحكم .مزيج بين قيادات نهضاوية عذبت وقمعت وهجرت في عهد بن علي و قيادات من حركة نداء تونس أغلبها كان له وظيفة سياسية أو إدارية في العهد السابق .
هذا المزيج غير المتجانس خلق تذبذاً سياسياً عاد بالوبال على تونس التي ظلت تتذبذب في وضع غير مستقر زادته الضربات الارهابية التي خفتت وتيرتها في الأشهر الأخيرة زادته تشنجاً وانقساماً.
فقد خرج للتونسيين رموز قديمة لم تقع محاسبتها و لكنها ذهبت لأبعد من ذلك تريد فرض قانون للمصالحة يرفضه كثر في تونس و يرون فيه شق الطريق أمام مبدأ العدالة الانتقالية.
لم تستكمل تونس مسار العدالة الانتقالية و ترسخت فيها ظاهرة الإفلات من العقاب. لم تقع القطيعة فكان أول رئيس لما بعد الثورة الرئيس السابق لبرلمان العهد القديم، ورئيس حكومته هو رئيس حكومة ما قبل الثورة ليتواصل السيناريو عجيبا غريبا مع تبادل جديد للأدوار.
يعود أغلب فلول النظام السابق الى سدة الحكم و السياسة اليوم دون أي محاسبة ولا عقاب فيتجذرون من جديد في نسيج الادارة التونسية بدعوى أن مرحلة البناء الحالية تتطلب حنكتهم السياسية .و أي حنكة؟ تلك التي قادت البلاد إلى أتون الانتفاضة الشعبية على حد قول الكثير من المحتجين الذين غص بهم شارع الحبيب بورقيبة الاسبوع الماضي في و هو أكبر شوارع العاصمة تونس .خرج المحتجون يقودون حملة «مانيش مسامح» في إشارة إلى أنهم لا ينسون الماضي القريب. خرج الآلاف للوقوف ضد محاولة لتمرير ما أصبح يعرف بقانون المصالحة الاقتصادية الذي تريد رئاسة الجمهورية التونسية بقيادة الباجي قائد السبسي تمريره في البرلمان التونسي .يرفض كثر قانون المصالحة الاقتصادية و يرون أن تبني هذا القانون سيسقط كافة قضايا وملفات الفساد ويوقف كل الاحكام القضائية التي تخص فلول النظام القديم. ويشمل مشروع قانون المصالحة الاقتصادية إلى جانب العديد من رجال الأعمال والموظفين العموميين مجموعة أخرى ممن تولوا مناصب في الجهاز الإداري و تحملوا مسؤولية سياسية في النظام السابق بما في ذلك الرئيس زين العابدين بن علي المشمول بهذه المصالحة الاقتصادية.
ويتيح مشروع القانون لرجال الاعمال إمكانية تعويض الاموال المنهوبة بنسبة فائدة لا تتجاوز 5 بالمائة مع التمتع بالعفو الجبائي بنسبة 30 بالمائة. ولعل الأمر يزداد سوءا في ظل تغلغل الفساد في كافة مفاصل الدولة التونسية مقابل غضب كبير من عهد قديم تفنن في زرع الفقر والاستبداد والفساد والإفساد.
مكسب وحيد يهدده الفساد
لئن كان من مكسب يتفق عليه جل التونسيين في تونس فانه حتماً مكسب حرية التعبير .فالمتأمل لوضعية الحريات في تونس يدرك سريعا البون الشاسع بين تونس في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي و تونس ما بعد الثورة .
لكن مكسب اليوم قد يكون مفقوداً غداً في ظل تنامي محاولات اعادة حرية التعبير لبيت الطاعة، إذ لم تخف جموع الحقوقيين تخوفها من تراجع مؤشر حرية التعبير في ظل انتهاكات يزداد عددها منذ العام الماضي . تفيد الوقائع في هذا السياق أن المؤسسات الاعلامية تشكو من محاولات السيطرة عليها من قبل رجال أعمال و ساسة متحزبين يحاولون تطويع الخطوط التحريرية لخدمة مصالحهم الحزبية الضيقة و اجنداتهم السياسية. فقد أبرز تسريب صوتي منذ أيام قليلة خطة داخل قناة نسمة لمالكها نبيل القروي و هو رجل أعمال تونسي و أحد قيادات حزب نداء تونس الذي يملك أغلبية مقاعد البرلمان و الذي صعد إلى رئاسة الجمهورية مؤسسه الباجي قائد السبسي، أبرز التسريب الصوتي خطة تحريرية لقناة نسمة لضرب عمل منظمة ”أنا يقظ“ بعد ان كشفت ملفات فساد و تهرب ضريبي لنبيل القروي مالك القناة. جندت القناة أبرز الصحافيين فيها و فتحت لهم منبرها لتشويه منظمة ”انا يقظ“ التي تعد أبرز مؤسسات المجتمع المدني التي كشفت في أكثر من مناسبة ملفات فساد متعلقة ببعض رموز السياسة في تونس.
تسريب خطير أثار جدالا واسعا بشان ملكية وسائل الاعلام وتوجيه الراي العام نحو قضايا مغلوطة باستغلال النفوذ .
كما اشتكى بعض من الصحافيين أيضا من أوامر فوقية بعدم تغطية الحراك الاجتماعي وعدم تمرير أصوات المحتجين في الجهات الداخلية التي مازالت تنتفض مطالبة بالتنمية والتشغيل ووضع حد لملفات الفساد المتراكمة التي تجعل من تونس بلداً فقيراً يتخبط في العديد من التجاوزات.
و زد على ذلك أن الصحافيين في تونس مازالوا يعانون عائقا كبيرا على مستوى مبدأ الوصول للمعلومة فعلى سبيل الذكر لا الحصر جنحت الحكومة التونسية إلى إصدار المرسوم عدد 4 الذي أصدرته حكومة الشاهد ثم تراجعت عنه، منشور اعتبرته نقابة الصحفيين التونسيين تضييقاً على المعلومة عبر منعه للموظفين العموميين من تقديم أية معلومة أو تصريح إلا بإذن من مرؤوسيهم. نقابة الصحفيين التونسيين تعتبر أن مثل هذه المؤشرات فيها محاولات مبطنة من السلطات السياسية التونسية للتحكم في وسائل الإعلام. ولعل هذا ما جعل التقرير السنوي الصادر عن منظمة «مراسلون بلا حدود» يشير إلى تراجع تونس بنقطة في مجال حرية التعبير المكفولة في دستور تونس الجديد الذي تمت المصادقة عليه سنة 2014.
قاطرة الثقافة تخلفت عن الثورة
عرفت تونس منذ هروب زين العابدين بن على تجاذبات كبيرة و إخفاقات و تحولات متراكمة بل وصل المشهد السياسي فيها حد الانقسام .لكن ما يؤرق البعض ان الثورة التونسية لم تشمل العقول و لا هي أثرت بأي شكل من الأشكال على الجانب الثقافي الذي بقي جامدا مجمدا .
شارك زمرة من المثقفين التونسيين منذ ست سنوات المنتفضين ضد الدكتاتورية انتفاضتهم و خرجوا كما خرج عموم المواطنين الى الشارع يطالبون برحيل الدكتاتور .رحل الدكتاتور وظلوا هم حيث تركهم. لم يواكب الحراك الاجتماعي الكبير حراك ثقافي ولا استفاد المثقفون و الفنانون في تونس من هامش الحريات التي اكتسبوها بسقوط النظام الذي مارس عليهم الرقابة و التضييق ثلاثة و عشرين عاماً.
في كافة جهات الجمهورية التونسية قليلة هي المبادرات الثقافية التي تحاول ملامسة الواقع التونسي المتغير و تستفيد من ثراء التجربة .فلا السينما التونسية استوعبت ما حصل و تجاوزته إلى الإبداع ولا الموسيقى ولا المسرح و لا اي شكل من اشكال الفن تبلور بالشكل الكافي الذي يواكب المجتمع التونسي المتعطش للفكر و الابداع هروبا من مرارة الوضع المتازم .
كثيرا ما يشكو التونسيون أفكارا متطرفة رجعية بدأت تطفو الى السطح في ظل فراغ فكري و كثيراً ما تسمع من هنا و هناك دعوات إلى الخلق و الإبداع لعلها تكون في مواجهة ما أصبح عليه العقل التونسي من تحجّر حد التطرف و تبني أفكار تكفيرية عرفت مستقرا لها وسط عقول شباب تونسيين منهم من انساق وراء جماعات ارهابية تنشط في الخارج و منهم من نفذ عمليات إرهابية داخل تونس تداعت لها البلاد و أدخلت الرعب في قلوب العباد .
و في ظل هذه الوضعية فان المسيرة لازالت مستمرة بحثا عن تغيير المنظومة الثقافية و القيمية للمجتمع التونسي الذي ما فتىء يشكو أزمة هوية قادته لمطبات خطيرة .